رياضة

علي البليهي: المدافع الذي لا يحبه بيب جوارديولا

بين لغة الجسد وهرموناته، كيف يستغل لاعبو كرة القدم الحيل النفسية لإخراج خصومهم من المباراة وهل ما يفعلونه يكون منظمًا أم عشوائيًا؟

future علي البليهي وبيب جوارديولا

في المباراة الأولى للأرجنتين أمام السعودية في كأس العالم 2022، عانى ميسي صداعًا قويًا في الرأس. لم يكن سببه قلة النوم أو القلق من خروجٍ مبكر من دور المجموعات في بطولةٍ سيتوَّج بها لاحقًا، وإنما جسدٌ ضخمٌ لِمدافعٍ ألقى بظله المخيف عليه حتى أوشك أن يبتلعه، وحركات غريبة أتى بها دون أي سياق أو مناسبة، وكلمات لهج بها ولا سابق معرفةٍ بين ميسي وبينها، لكن من سيماء صاحبها ولغة جسده وحركة أصابعه؛ قدّر أنها تحمل تعنيفًا أو تطاولًا من نوعٍ ما.

ولم تكن تلك الكلمات في الحقيقة سوى عبارة واحدة يصرخ بها المدافع السعودي «علي البليهي» في وجه ميسي: لن تفوز علينا!

تويت

ويبدو أن ميسى نجا عندما رضخ واستسلم لذلك التعنيف، دون أي محاولة متهورة لدفعه أو لكمه في الوجه، وإلا كان من الممكن أن يلقى مصيرًا مشابهًا لعدد من المهاجمين الذين ذاقوا الأمرّين أمام البليهي.

«منذ سنوات ومع نادي الأمل كنتُ أضع قطعتي بصل في جواربي، إذا أعتقدتُ أن المهاجم حركته متواصلة وأتعبني؛ أتناول قطعة بصل ثمّ أتحدث معه لكي لا يرغب في الوقوف بجانبي».

قطعةُ بصلٍ في جورب، وكلامٌ بذيء عن زوجة لاعب، وتصريحات مخادعة تفوح منها روائح المكر والحيلة، واعتراض مفتعلٌ على حكم المباراة ليشدد عقوبةً أو لِيخففها.

عالم باطنيّ كامل يقوم على الحيل النفسية، التي قد تتحكم في سير المباراة إن توافرت لها الأسباب، بل وتحدد في بعض الأحيان نتيجتها، حتى قبل أن تبدأ.

فمن الذي يلجأ إلى تلك الحيل؟ وكيف تتركُ أثرها على اللاعبين والمدربين؟ وما الدور الذي لعبته تلك الحيل في تحديد بطل العالم 2022؟

 

قمة العجز أم ذروة الكمال؟

«يمكن أن يهيّج «فيرغسون» الجمهور ضدك، بمجرد أن يقفز من كرسيه ويتفاعل مع قرار الحكم. أتحدى أي شخص في مكاني ألّا يشعر بهذا القدر من الضغط!»
_مارك كلاتينبرج، حكم إنجليزي سابق.

يظن البعض أن الحيل النفسية إنما هي وسيلةُ العاجز عن مواكبة خصمٍ أكثر تفوقًا واستعدادًا. أو حيلة الضعيف لمجاراة القوي أو لمنعه من أن يكون القوي الذي اعتاد أن يكونه ولو لبعضِ الوقت. إما لتعويض نقصٍ تكتيكي أو فروق فردية أو غيرها.

لكن التفاتةً بسيطة للماضي ونظرةً سريعة للحاضر، تثبتُ حضورَ الأقوياء القادرين أيضًا. أولئك الذين لم يترفَّعوا عن اعتناق تلك الحِيل ولم يخجلوا من اعتبارها جزءًا أصيلًا من اللعبة التي تُكسب داخل الملعب وخارجَه على حدٍ سواء.

ويعدُّ السير أليكس فيرغسون من أوائل الذين وضعوا قواعد تلك اللعبة وأَرسوا مبادئها. وكثيرًا ما أرسل حِيَله النفسية في إثْرِ المنافسين والحكّام حتى ينخدعوا لها ويتحقق له مُراده.

في موسم 2008/2009 كان ليفربول بقيادة «رافا بينيتز» متصدرًا بفارق خمس نقاط عن اليونايتد. قبل أن يخرجَ «فيرغسون» للصحافة بشكل شبه يومي متذمرًا من جدول المباريات المزدحم وقرارات الحكام المنحازة؛ ليلتقطَ «بينيتز» الطُعم وينجرفَ مع السيل الذي شغله بالمؤتمرات الصحفية للردِّ على فيرغسون، وخسر الدوري في النهاية لصالح اليونايتد.

تويت

أما «جوزيه مورينيو» فقد كان من أكثر من أدركوا خطر الحيل النفسية وطوروها، لتتجاوز إرهاب الخصوم واستمالة الحكام، إلى تحفيز اللاعبين وحثّهم على الاستماتة في الملعب.

وما أكثر ما تحدث لاعبوه السابقون عن جودته الممتازة، في ترويض عقولهم الشابة ودفعهم لتقديم أقصى ما يملكون داخل الملعب وخارجه.

يؤمن «سيسك فابريغاس» أن الأحضان التي كان يوزعها مورينيو على لاعبيه في تشيلسي، كانت جزءًا من حيلة نفسية يتبعها وتكشّفت لفابريغاس بالملاحظة، إذ لا يحتضن إلا لاعبًا قد أبلى بلاءً حسنًا في الملعب، فيغري لاعبيه الآخرين بمثل تلك المعاملة إن هم اجتهدوا وأجادوا، وكثيرًا ما آتت تلك الحيلة أُكلها.

وحيثما ولّى مورينيو وجهَه، لازمته تلك الحيل كظلّه، مع الزملاء والخصوم على حدٍ سواء، كلٌ بما يناسبه، وكأنّه الزمّار الذي يأبى إلا أن يموت «وإيده بتلعب»!

كل شيء يحدث هنا، في الدماغ!

يؤكد عالم النفس الرياضي برادلي بوش، أن التطور الهائل في علوم الأعصاب والتكنولوجيا، مكّن العلماء من وضع أيديهم على المنطقة المُخيّة المسئولة عن جودة الأداء، وهي المنطقة الموجودة تشريحيًا في الجزء الأمامي من الفص الجبهي بالمخ.

خلال عمله في شركة Inner Drive، قدم بوش العديد من الاستشارات النفسية المتعلقة بالأداء، لعدد من لاعبي أندية البريميرليج مثل توتنهام وويست هام وفولهام وغيرها، وقدم تفسيرًا علميًا لتلك الحيل النفسية وكيفية الفكاك من فخاخها.

عندما يهمس المدافع مثلًا في أذن المهاجم المكلَّف بمراقبته، موجهًا له انتقادًا حادًّا أو سبابًا جارحًا؛ فإن ذلك يزيد من إفراز هرمون التوتر والضغط، الكورتيزول، الذي يؤثر بدوره على وظيفة الفص الجبهي من المخ، ويصيبه بالخمول.

أما إذا أبقى المهاجم على حالته الذهنية القوية، سواء بحديثه الإيجابي لنفسه أو بتلقي المديح والإشادة من مدربه وزملائه وجماهير فريقه؛ فإن ذلك يحفز إفراز هرمونات السعادة والنشاط، الدوبامين والنور-أدرينالين، التي تنشِّط بدورها الفص الجبهي من المخ، وتجعله أكثر كفاءةً وأسرع استجابة.

ولا يمكن الجزم بوعي «البليهي» بتلك الحقائق العلمية، كما لا يمكن التأكد ما إذا كان استهداف قشرة المخ بشرائح البصل حلًا ناجعًا، لكن الملاحظة الدقيقة للمَشاهد التي يمارسُ فيها «البليهي» حِيله على اللاعبين أمثال ميسي ورونالدو وليفاندوفسكي، تظهر معرفةً وثيقة بالعقلِ والجسدِ وكيفية عملهما معًا.

فبينما يتبع «البليهي» فريسته في الملعب، ممارسًا كافة الحيل النفسية المنطقية وغير المنطقية في آن واحد، يحاول الحفاظ على وضع جسدي منتصب، يساهم في تضخيم جسده وظله، وهو مما ثبت أنه يمنح تفوقًا نفسيًا على الخصم.

تويت

فحسبما يوضح بحثٌ أجري في مدرسة هارفرد لإدارة الأعمال، أن الأوضاع الجسدية المُهيمنة، يمكن أن تقلل إفراز هرمون التوتر، الكورتيزول، بنسبة 25%، كما أنها تزيد من إفرازات هرمون الذكورة، التستوستيرون، بنسبة 19% وهو ما يعطي متّخذها دفعةً من الثقة.

وقد أفاد «بوش» من تلك الدراسة في عمله مع لاعبي البريميرليج، إذ ينصحُ اللاعبين بألا يجعلوا مستوى نظرهم أقل من علم الزاوية، لأن ذلك يعبث بهرمونات الجسد، ويحوّل الحالة النفسية للاعبين للأسوأ.

على صعيدٍ متصل، عَكَفَ «جير جورديت» البروفيسور المتخصص في العلوم الرياضية بالجامعة النرويجية، على دراسة تأثير الضغط على كفاءة العمل، من خلال مشاهدة وتحليل جميع ركلات الترجيح المُسددة في الخمسين سنة الأخيرة، ومن بينها ركلات الترجيح التي توجت الأرجنتين ببطولة كأس العالم 2022، أثبت خلالها أن طريقة تعامل «مارتينيز» ولغة جسده بداية من رمي العملة المعدنية لتحديد البادئ بالتسديد، مرورًا بسلامه على هوجو لوريس حارس فرنسا وكذلك لاعبيها، وصولًا للركلة الأخيرة، كل ذلك كان مقصودًا وكان له أثر كبير في تتويج الأرجنتين بكأس العالم.

 

الخطيئة التي يتبرأ منها جوارديولا

«الحيلة النفسية هي أن تلعب أفضل من منافسيك.»
_بيب جوارديولا

لا يروق لجوارديولا أن يوصف بأنه يتبع حيلًا نفسية للتأثير على منافسيه، وكأنها تهمة يتبرّأ منها. تمامًا كما تبرأ منها مورينيو نفسه. الرجل الذي عُرف بها وأدمنها مع رفاقه وخصومه، ثم باتت تلاحقه كخطيئة تسرق نجاحاته ومجهوداته.

يحب جوارديولا أن يعبث بعقل منافسه بحرمانه من الكرة، بمباغتته بالهجوم قبل تعافيه من هجومٍ سابق، بصناعة الفرصة تلو الأخرى دون هوادة أو رحمة.

يوضح لاعب كرة القدم السري، الذي يحكي كثيرًا من أسرار الكرة في صحيفة «الجارديان» بهوية مجهولة، ضرورة وجود الألعاب العقلية والحيل النفسية في كرة القدم، وإن لم توجد لكانت هنالك حاجة ملحّة لاختراعها في مناخٍ مواتٍ وتربة خصبة.

يوشك أن يبتلعك الجمهور ويعصف بك الفريق المنافس، تشعر بتآمر الحكام ضدك، كل تلك الظروف إن صادفت لاعبًا هشًا بالطبع سينتهي به الأمر إلى الارتباك والهلع. أما بالنسبة للاعبين الأقوياء ذهنيًا، فمن المذهل أن ترى كيف تتضافر المهارة بالكرة مع القوة الذهنية لتخلق مزيجًا لا يعدو عليه الزمان ولا تربكه تلك الحيل.

لكن ذلك لا يجب أن يبرر الخداع والكذب، فقد تعود أحد مدربيه الكذب على لسان مدرب فريق الخصم، وطبع تصريحاته الملفّقة على جدران غرفة الملابس ليشدّ من أزر لاعبيه ويبث فيهم الحمية والغضب، حتى إذا انتهت المباراة وتحقق النصر وانتهت المهمة؛ أخبرهم أنها مجرد حيلة نفسية لا أكثر!

بالطبع لا يوجد قانون يعاقب على تلك الحيل أو ينظمها؛ ذلك أن الحد الفاصل مُبهم، بين المقبول وغير المقبول، وثوب تلك الحيل واسعٌ فضفاض، يتسع لتصريحات فيرغسون ومانشيني ومورينيو، ويتسع أيضًا لبصلة البليهي وبذاءة ماتيرازي وبهلوانية مارتينيز.

حسام لوقا: عنكبوت سوريا والانقلابي المنتظر
ليسوا جميعاً إيتو ودروجبا: كيف تتبخر أحلام الاحتراف الأفريقي في أوروبا؟
رامي صبري وويجز: بين رقم 17 ورقم 40

رياضة